المقاومة الشعبية الفلسطينية:

المقاومة الشعبية الفلسطينية:

  • المقاومة الشعبية الفلسطينية:

اخرى قبل 4 سنة

المقاومة الشعبية الفلسطينية:

 نمذجة المواقع وإشكاليات الرؤية

 

أيمن طلال يوسف[*]-مركز الأبحاث

 

ازداد الحديث عن مصطلح “المقاومة الشعبية” في السياق الفلسطيني خاصة في الدوائر السياسية والحزبية، وحتى في الدوائر الأكاديمية والبحثية، ليس لأن المصطلح ذو محتوى تزييني (ديكوري) مغر من الناحية السياسية، ولكن لكونه مرتبطا بالمرحلة الحالية التي تمر بها القضية الفلسطينية، والحالة الوطنية الفلسطينية على وجه العموم.

وإذا كانت المقاومة الشعبية تعني بحرفية الكلمات والعبارات ذات النسق النضالي السلمي، ولا عنفية المشروع التحرري الانعتاقي من سطوة الاحتلال وقيود المحتل، فإن المقاومة الشعبية الفلسطينية موغلة في التاريخ الفلسطيني، ولها جذور عميقة في مسيرة الفلسطينيين منذ بداية القرن الماضي على الأقل، لأنها مرت بمراحل مختلفة كان أهمها إضراب عام 1936، ومختلف الثورات والهبات الشعبية العفوية خلال فترة الانتداب البريطاني، مروراً بانتفاضة عام 1987، وانتهاء بانتفاضة عام 2000، وما تبعها من نماذج مختلفة من المقاومة الشعبية. ومع هذا يمكن القول، إن شيوع هذا المصطلح على نطاق واسع مع بدايات القرن الواحد والعشرين، تقريبا جاء بفعل مجموعة من العوامل والمتغيرات، التي لا بد من الوقوف عليها، ومنها:

تجربة الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي مالت بوضوح نحو العسكرة والتصعيد العسكري الواضح مع الاحتلال، ما أسهم في إحداث دمار هائل في الأراضي الفلسطينية، سواء على الصعيد البشري أو على صعيد البنية التحتية والإرهاب النفسي وإعادة احتلال إسرائيل للمدن والتجمعات الفلسطينية التي أخلتها بموجب اتفاقية أوسلو الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) في عام 1993. ويبدو أن الفلسطينيين في تلك المرحلة من عمر الانتفاضة الفلسطينية الثانية لم يستطيعوا الاستثمار السياسي بالشكل الأمثل في العمليات العسكرية والفدائية التي نجحت فصائل العمل الوطني بالقيام بها ضد أهداف إسرائيلية.

قيام إسرائيل بالبدء ببناء الجدار الفاصل داخل أراضي الضفة الغربية لفصلها بشكل تام عن أراضي عام 1948، وعن المستوطنات الإسرائيلية الموجودة داخل الأراضي الفلسطينية. فبناء الجدار والتفافه داخل الأراضي الفلسطينية من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، قاضماً مساحات واسعة من الأراضي، وتاركاً وراءه آثاراً ديموغرافية وجغرافية ونفسية كثيرة، وقد ولد موجة تضامن دولية لمناصرة الفلسطينيين. في هذا السياق، لفت نمط المقاومة الشعبية ذات التوجهات السلمية أنظار المتضامنين الأجانب بمن فيهم بعض قوى اليسار الإسرائيلية، لأنهم اعتبروا أنفسهم جزءاً من هذه العملية النضالية التحررية الراقية كونها ذات طابع سلمي، وأبعادها الأخلاقية السامية سهلة التسويق عالمياً، ولدى الرأي العام الدولي.

أما العامل الثالث فمرتبط بالنموذج التنموي الذي تبنته السلطة الوطنية الفلسطينية خاصة بعد الانقسام السياسي في عام 2007، لبناء الدولة من خلال المأسسة والتنمية المستدامة والمكاشفة والشفافية، ورفع شعار المقاومة الشعبية كرافعة للعمل السياسي المفاوض. ويبدو للباحث أن الإستراتيجية الفلسطينية في التعاطي مع الاحتلال في السنوات الخمس الأخيرة جمعت ثلاثة متغيرات هامة، أحدها كان المقاومة الشعبية، إضافة إلى متغيري المأسسة والتنمية المستدامة من جهة، واستنطاق الدعم الدولي من جهة أخرى.

أصبحت المقاومة السلمية خياراً فلسطينياً استراتيجياً في الآونة الأخيرة بسبب انسداد الأفق التفاوضي مع الإسرائيليين حيث أدى الانقسام الفلسطيني الداخلي إلى ضعف شوكة القيادة الفلسطينية في مطالبها بالدولة والاستقلال والتحرر، كما أن صعود حكومة اليمين في إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو قد خلق إشكاليات إضافية على صعيد العملية التفاوضية حيث أن قناعات نتنياهو اليمينية المتطرفة عبر عنها من خلال عدم الاقتناع بوجود شريك تفاوضي فلسطيني قوي، فضلاً عن إيمانه العميق أن إدارة الصراع مع الفلسطينيين، وخلق حالة من السلام الاقتصادي، سيمكن الحكومة الإسرائيلية من إكمال سيطرتها على القدس، وتكثيف عمليات الاستيطان على الأرض لخلق وقائع لا يمكن تغييرها بسهولة إن تجددت المفاوضات مع الجانب الفلسطيني مستقبلاً.

زيادة الاهتمام الأكاديمي الفلسطيني بموضوع المقاومة الشعبية، لأن مثل هذا النموذج يستفيد من نماذج عالمية في النضال والمقاومة ومحاربة الظلم، ولعل نموذج غاندي في الهند، ومارتن لوثر كينج في أميركا، ونيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، وتجارب إحداث الدمقرطة والتحولات الديمقراطية في أوروبا الشرقية في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، كلها تعد نماذج هامة يجب الأخذ بها والاستفادة منها في هذا السياق.

كما أن الربيع العربي الذي ما زالت موجاته مستمرة وتداعياته واضحة في أكثر من مكان، قد انعكس فعلاً على التجربة الفلسطينية في المقاومة لا سيما أن الجماهير العربية خاصة في تونس ومصر، قد نجحت فعلاً في إحداث تغيير سياسي عبر اللجوء إلى آليات المقاومة السلمية والاحتشاد في الميادين بالرغم من مواجهتها بالقمع البوليسي والعصا الأمنية والبلطجة الشوارعية.

 

 

 

تأطير نظري ومفاهيمي:

تتداخل مفاهيم “المقاومة الشعبية”، و”المقاومة المدنية”، و”المقاومة السلمية”، و”المقاومة اللاعنفية” ببعضها البعض في المحتوى والمضمون، وحتى في أساليب المقاومة، بالرغم من بعض الاختلافات في طرق تطبيقها، بناء على السياقات الثقافية والاجتماعية والوطنية من بلد إلى آخر.

والتداخل هنا يحدث بسبب عدة عوامل هامة، أولها، طبيعة الخصم أو العدو الذي تواجهه في ثورة شعبية كأن يكون العدو أو الخصم نظاماً دكتاتورياً وطنياً، أم عدواً خارجياً أو محتلاً استيطانياً، أما العامل الثاني فيتوقف على التعريف العام للمقاومة في ظل بيئة ثقافية/ اجتماعية/ دينية/ فلسفية لها نظرتها وتصوراتها ومفاهيمها العامة تجاه العنف واللاعنف. أما ثالث هذه العوامل، فينصب حول التجارب العالمية المتعددة في التحرر والاستقلال الوطني وآفاق التغيير الاجتماعي / السياسي في مناطق مختلفة من العالم خاصة في دول العالم الثالث وشرق أوروبا، والوسائل والأدوات التي استخدمت لإحداث هذا التغيير البنيوي.

بالمجمل، يمكن القول إن المقاومة الشعبية بكل ألوانها وأطيافها وتلاوينها ومسمياتها تركز على بناء نظام قيم عالمي World-Wide Value System لمقاومة الظلم والقمع والعدوان، ومعالجة كل أشكال العنف الدموي بوسائل سلمية أو لاعنفية.

في الحالة الفلسطينية، تعد دراسة المقاومة الشعبية أو السلمية بمثابة حالة مقاومة ضد احتلال مباشر وقمع بنيوي منظم يمارسه المحتل ضد شعب واقع تحت الاحتلال. وهنا لا بد من الإشارة إلى مدرستين فكريتين هامتين، تناولتا المفاهيم والمضامين العامة للمقاومة الشعبية أو السلمية وآفاق عملها

 المدرسة الأولى تبناها المهاتما غاندي Mahatma Gandhi – المدرسة الغاندية المثالية- في بدايات القرن العشرين في سياق تجربته الشخصية والوطنية في مقاومة المستعمر البريطاني في شبه القارة الهندية حينما دافع عن استنهاض طاقات الخير عند العدو، واستنطاق إنسانية المستعمر والانفتاح عليه، والحديث معه بلغة العقل والبحث المشترك عن الحقيقة[1].

أما المدرسة الثانية، فتبناها "جني شارب" Gene Sharp ذو التوجهات الواقعية البراجماتية، حيث دافعت هذه المدرسة عن إستراتيجية عملية واضحة المعالم لهزيمة الخصم، من دون بذل جهد كبير لاستنطاق إنسانيته، أو إثارة عوامل الخير بداخله[2[

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أغلب حركات المقاومة الشعبية والسلمية، في سبيل توجهها نحو التغيير الاجتماعي/ السياسي في ظل أنظمة دكتاتورية أو في طريق جهدها لهزيمة العدو أو المحتل، يجب أن تنطلق من رؤية قادرة على تحديد مصادر وأعمدة دعم هذا الخصم بما فيها عناصر قوته المادية والمعنوية والقمعية، وحالة الاستسلام والخنوع والتعاون والسلبية التي تميز الشعوب الخائفة والخانعة. فالمستعمر أو الدكتاتور على حد سواء لا يعتمد فقط على قوة القمع والتوحش لديهم، إنما –أيضا- على الخضوع والخنوع عند عامة الناس عبر استعدادهم الدائم للتعاون والتجاوب مع سياسات المحتل أو الدكتاتور على حد سواء، بما فيها دفع الضرائب واحترام قوانين القمع، والوقوف في طوابير الانتظار أمام مؤسسات وأجهزة الخصم أو المحتل[3].

بكلمات أخرى، ركزت أغلب دراسات تغيير الأنظمة السياسية السلطوية /التوتاليتارية على أهمية العمل لتغيير الأرضيات التي تقف عليها هذه الأنظمة عبر خلخلة مصادر دعمها الداخلية والخارجية، لا سيما القاعدة البشرية والاقتصادية والمادية والعسكرية، فضلاً عن أصدقائها وحلفائها على المستويات الإقليمية والدولية، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية صبورة، هادئة، متأنية، ثابتة وعقلانية تأخذ بالأسباب والمسببات[4[

ومن أجل أن يتم إحراز نتائج ملموسة على أرض الواقع، فإن حركة اللاعنف أو المقاومة الشعبية على الأرض يجب أن تعمل جاهدة لزيادة تكلفة السياسات القمعية للنظام الدكتاتوري Repressive Policies of the Regime، والذي يؤدي في نهاية المطاف إلى التخفيف من استعماله للقوة الغاشمة والأسلحة القاتلة ضد الحركة الشعبية، ويفقده الشرعية عند أصدقائه وحلفائه المحليين والخارجيين لا سيما القوى البيروقراطية والأمنية الداعمة له، ويشجع حركة الانشقاق بين جنوده وقواه الأمنية التي تعمل في الميدان على قتل المتظاهرين وقمع الحركة الشعبية المسالمة[5].

يضاف إلى ذلك أن حركات المقاومة الشعبية/ السلمية التي تثور ضد نظام حكم دكتاتوري قمعي تختلف في أساليبها وتكتيكاتها واستراتيجياتها عن تلك الحركات العاملة في الميدان ضد محتل خارجي، يستعمر الأرض بشكل مباشر، لأن الحركة الشعبية هنا في الحالة الثانية يجب أن تعمل للانطلاق من فكرة مقاطعة الاحتلال والاستعمار على المستويات كافة: الاقتصادية والعلمية والثقافية والأكاديمية والطبية والقانونية، إضافة إلى عملها على ترسيخ القناعة عند عموم الناس أن إرادة الشعوب أقوى بكثير من سياط المحتلين والجلادين[6[

وتتعدد أشكال المواجهة مع الخصم المحتل أو الدكتاتور في الميدان من بلد إلى آخر، ومن موقع إلى آخر اعتماداً على طبيعة هذا الخصم أو العدو، واعتماداً على إمكانيات الحركة الشعبية وقدراتها، لكن بالمجمل يمكن الحديث عن أشكال متعددة للنضال السلمي على النحو التالي:

1-المقاومة الرمزية Symbolic عبر المحافظة على قنوات الاتصال الفعال بين أعضاء المقاومة نفسها، والعمل على استخدام الإشارات والرموز والأسماء الحركية وحتى اللباس في سبيل تدعيم الشعور الوطني بين الناس، وحضور المناسبات الوطنية وإحياء التراث الشعبي.

2-المقاومة التراكمية Accumulative من خلال المحافظة على أداء الحركة في الميدان، ونقل الاحتجاجات إلى أوساط الحركة الشعبية، والعمل الجاد لتشجيع الآخرين للمحافظة على الكفاح أو النضال ضد الخصم أو العدو.

3-المقاومة الهجوميةOffensive عبر تنظيم سلسلة فعاليات على الأرض لإحباط الخصم ودفعه للشعور باليأس، وتكثيف المظاهرات والإضرابات وكل النشاطات الأخرى المباشرة التي تأخذ من الشعب والجماهير صفوفا مؤيدة لها.

4-المقاومة الدفاعية Defensive التي تعمل على المحافظة على الإنسان والبشر وعدم الانسياق وراء قوة الخصم المدمرة، والمحافظة على أخلاقيات المقاومة والقيم الإنسانية العالمية خاصة فيما يتعلق بالعنف والقتل وتخريب الأملاك والممتلكات. مثل هذا النشاط يهدف في المحصلة النهائية إلى تحييد قوة الخصم المدمرة، ويمنعه من الاستخدام المكثف للقتل والتدمير.

5-المقاومة الإيجابية Positive البناءة التي تعمل على إيجاد بدائل على مستوى القانون العام أو المؤسسات والتي تخدم بدورها الناس، وتدفعهم لعدم اللجوء إلى مؤسسات المستعمر أو النظام الدكتاتوري، وتفصلهم مع مرور الوقت عن بنية المستعمر وتركيبته الاقتصادية والتنموية والبيروقراطية والأمنية أيضا[7[

ومن أجل إحداث مقاومة شعبية ذات طابع مدني لمقاومة الاحتلال أوالاستعمار أوالأنظمة القمعية التوتاليتارية، فلا بد من خلق مقاومة جماعية على المستوى الوطني مع الأخذ بالاعتبار الظروف المواتية لبروز هذه الحركة ومنها:

1-الشعور القوي بالانتماء إلى الهوية الوطنية والتضامن الاجتماعي بين السكان المحليين الواقعين تحت الاستعمار أو تحت حكم العسكر والسياسات القمعية، وهذا يتطلب تذويب الفوارق الطبقية بين فئات المجتمع من المنظورين الاجتماعي والاقتصادي، لأن مثل ذلك يسهل خلق هوية وطنية متجانسة ومتضامنة.

2-قيادة ميدانية فاعلة موجودة بين الناس، وتتحرك من منطقة إلى أخرى، تمتلك الرؤية والإستراتيجية وقريبة من الناس، وقادرة على الاستجابة لمطالب الناس، وتمتلك القدرة على الإبداع والتفكير الحر والخلاق خاصة في المواقف الصعبة والمؤثرة، إضافة إلى مقدرتها على تلبية حاجات الناس، وتقليل اعتمادهم على المستعمر أو الدكتاتور، والمقدرة على طرح البدائل في زمن المواجهة.

3-ثقافة ديمقراطية وطنية تحتضن الجميع، ولا تستثني أحداً أو تهمش أحداً، تعتمد على تقاليد المواطنة والحريات الأساسية للمواطنين واحترام حقوق الإنسان والتسامح الفكري والديني، ومكافحة كل أشكال العنف والظلم المجتمعي والديني.

4-العمل الجاد والدؤوب على مستوى القاعدة الشعبية لاستنهاض كل المؤسسات القاعدية ومنظمات المجتمع المدني واللجان الشعبية والمجالس المحلية والنقابات واتحادات المرأة والشباب والطلبة ليكونوا جزءاً من معركة النضال والتحرير الشعبي العام[8].

ومن أجل أن تنجح هذه الحركة الشعبية المقاومة في تحقيق أهدافها السياسية العليا في التحرير أو الانعتاق من الحكومات القمعية السلطوية، فلا بد أيضا من توافر شروط ومستلزمات أخرى يقف على رأسها:

5-الشعور التضامني داخل الحركة الشعبية المقاومة نفسها بحيث تكون واسعة الصدر ورحبة لاحتضان كل الجماهير من مختلف الشرائح الاجتماعية والطبقات الاقتصادية ومن مختلف الألوان السياسية والمناطقية والجغرافية.

6-العمل على إيجاد توازنات هامة على صعيد القدرات الذاتية والأهداف، إضافة إلى دراسة قدرات المستعمر أو الدكتاتور، وخلق مساحة من الأمل والشرعية وقرب الخلاص الوطني العام.

7-تمتين التركيبة التنظيمية العامة لحركة الاحتجاج وتقويتها عبر تشجيع الأشخاص والقيادات الميدانية التي تمتلك الخبرات التنظيمية لقيادة العمل الميداني وقيادة حركة الاحتجاج السلمي في الشارع.

8-وضع إستراتيجية واضحة للمواجهة مدعومة بمجموعة من التكتيكات المحورية بحيث يقوم على تنفيذها ووضعها موضع التجربة العملية من خلال تدريب النشطاء على الأرض، وبث روح العمل الجماعي المنضبط بينهم، وإقناعهم بعدم الانجرار وراء استفزازات العدو أو المستعمر من أجل تحييد قدراته المدمرة. كما أن هذا يتطلب المحافظة على قنوات اتصال وتواصل فعالة داخل الحركة نفسها، ومع الشارع العام بما فيه بعض المتفرجين المتعاطفين مع حركة التغيير الوطني السلمي، كما أن التواصل في قنواته الضيقة يجب أن يستمر مع الخصم أو الدكتاتور من أجل تشجيع بعض العناصر الأمنية والبيروقراطية على الهجرة والانضمام إلى صفوف الشعب والجماهير الثائرة في الشوارع.

9-تحشيد مصادر الدعم الداخلي والخارجي للثورة الشعبية السلمية، وهذا يشمل مصادر الدعم الاقتصادي والمالي والمادي والدعم الطبي واللوجستي، وخلق دوائر من المناصرين المحليين والقوى واللاعبين الخارجيين من أجل عبور حركة الشارع جسور الأمان والإنجاز والتحرير[9].

 

  

محطات تاريخية هامة في مسيرة المقاومة الشعبية في فلسطين:

وكما أن مازن قمصية، المتخصص في دراسة تاريخ المقاومة الشعبية في فلسطين، قام بدراسة هذه الحركة السلمية المدنية منذ بداية القرن الماضي، عبر المرور بمحطات هامة من تاريخ المقاومة اللاعنفية في فلسطين منذ أيام العثمانيين الأتراك، والانتداب البريطاني، وانتهاءً بالاحتلال الإسرائيلي المباشر لفلسطين، فإن هذه الدراسة ستحاول التركيز على محطات هامة في تاريخ الثورة الشعبية السلمية في فلسطين[10] ومن أبرز هذه المحطات ثورة عام 1936 وانتفاضة عام 1987، ثم الولوج إلى انتفاضة الأقصى الثانية في عام 2000. لقد مهدت الظروف الصعبة والقاسية التي مر بها الفلسطينيون العرب في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، الأرضيات الصلبة لثورة عام 1936 التي لعبت دوراً هاماً في زيادة درجة الوطنية، ومنسوب روح القتال والنضال عند الفلسطينيين.

فأوضاع الفلسطينيين تعقدت كثيرا وتدهورت بشكل واضح في بداية العقد الثالث من القرن العشرين بفعل الظروف الاقتصادية الصعبة، وزيادة وتيرة هجرة اليهود من كل أصقاع الأرض إلى فلسطين، وتوسع حملة الاستيلاء على الأراضي العربية. وقد مارس الفلسطينيون في ظل تلك المرحلة أشكالاً مختلفة من النضال والمقاومة بما فيها المقاومة الشعبية الرمزية والانفعالية Symbolic عبر التركيز على الإعلام المتاح ونشر المقالات في الصحف اليومية، ومع أن البريطانيين منعوا صدور العديد من الصحف الوطنية الفلسطينية بسبب دورها في إذكاء روح العمل الوطني، ألا أن هذه الفترة شهدت ميلاد حزب الاستقلال في عام 1932، والذي دعا إلى استقلال فلسطين الكامل عن الانتداب البريطاني[11[

إضافة إلى المقاومة الإعلامية والرمزية، وقفت القيادات الفلسطينية مع عموم الناس في تبني شكل آخر من أشكال المقاومة الشعبية أخذ طابع الدفاع عن الأرض، وعدم التعاون مع اليهود في إدارة مصانعهم وتشغيل مزارعهم، وتحريم بيع الأراضي العربية لليهود، وقد قاد حملة المقاطعة هذه حزب الاستقلال بالتنسيق مع اللجنة العربية التنفيذية. وترافق مع ذلك دعوات صريحة صادرة عن حزب الاستقلال تدعو فيها الناس إلى عدم التعاون مع سلطات الاحتلال البريطانية ومقاطعة البريطانيين واليهود على حد سواء على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وعدم دفع الضرائب لهم، ومقاطعة كل أشكال النشاطات التي رعتها الحكومة البريطانية بما فيها المناسبات والاحتفالات واستقبال القادة وزعماء الدول.

ومن المعروف أن المرحلة الأولى من ثورة عام 1936 كانت سلمية الطابع ولاعنفية المحتوى والمضمون، حيث برزت كل أشكال المقاومات الرمزية والانفعالية والإعلامية والدفاعية والهجومية، وأهم ما ميزها خروج أعداد كبيرة من العرب الفلسطينيين في مظاهرات واحتجاجات ومسيرات، كما عمت حركة الإضرابات والمقاطعات وعدم التعاون والعصيان المدني سائر المدن الفلسطينية.

ومع انطلاقة اللجنة العربية الوطنية في مدينة نابلس في نيسان 1936، وقيام اللجنة العربية العليا بقيادة الحاج أمين الحسيني تقريباً في الفترة نفسها، دخلت أغلب المدن الفلسطينية والقرى والأرياف في أطول إضراب تقوم به وتنظمه الحركة الوطنية الفلسطينية إذ دام لأكثر من ستة شهور متتالية. وكان الإضراب شاملاً ووصل إلى أغلب المدن والتجمعات الفلسطينية، وإلى مختلف القطاعات الاقتصادية ومناحي الحياة، وتوسع ليشمل المحلات التجارية والمواصلات والمصانع والمزارع. لكن كان الإشكال في معارضة القيادة السياسية الفلسطينية تحت إمرة الحاج أمين الحسيني دعوات الإضراب الشامل حتى تصل إلى موظفي الدولة والإدارة العامة والخدمة المدنية، كون الحاج أمين رغب في تلك المرحلة من عمر الانتفاضة في المحافظة على خطوط الاتصال والتواصل مع إدارة الانتداب البريطاني، وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة معهم[12].

تشكلت اللجنة العربية العليا بمبادرة من الحاج أمين الحسيني وبعض قادة الأحزاب العربية الفلسطينية الأخرى، خلال ثورة عام 1936-1939 والتي توجت بالإضراب الذي دام أكثر من ستة أشهر.

واللافت للنظر هنا قدرة الحاج أمين الحسيني على قيادة اللجنة العربية العليا في وقت حساس ومعقد خاصة أنها ضمت شخصيات مقدسية وفلسطينية مختلفة في مشاربها ومآربها وأطروحاتها السياسية، ولعل هذا يعكس الصفات النخبوية والقيادية التي امتلكها الحاج أمين، لأن اللجنة كانت مسؤولة عن إدارة المعركة السياسية مع الإنجليز، وإدارة العمل الميداني بشكل كاف لضمان استثماره سياسياً، لا سيما أن بعض الزعامات العربية في تلك الفترة أبدت فتوراً شديداً اتجاه الأحداث واتجاه الإضراب العظيم الذي نفذه الفلسطينيون في تلك المرحلة من عمر القضية الفلسطينية[13[

وفي خضم الإضراب الطويل تكثفت الاجتماعات، وتم تشكيل اللجان القومية في أغلب المدن الفلسطينية الكبرى، وأصر الجميع على المضي بمشروع الإضراب وعدم دفع الضرائب للمندوب البريطاني. في هذه الأثناء كان هناك جهد منظم لتعميق الإضراب وتطوير أشكال جديدة من المقاومة اللاعنفية شعبية الطابع ومنها تشكيل اللجان المختلفة، وكان منها لجان الإسعاف ولجان خدمة المحتاجين ولجان دعم المرضى وتقديم المساعدات العينية والمادية للأسر المحتاجة.

الانتفاضة الأولى:

في الانتفاضة الأولى (1987) تفنن الفلسطيني في استخدام وسائل وأدوات المقاومة الشعبية وكان على رأسها المسيرات والرموز الاحتجاجية والمظاهرات الشعبية والاعتصامات الجماهيرية الحاشدة، وتكثيف إقامة الصلوات في المساجد والكنائس، وفي المناطق المهددة بالمصادرة والاقتلاع، لما لهذه الوسائل من فاعلية هائلة على صعيد زيادة منسوب الوطنية الداخلية وكسب الرأي العام الدولي. كما عمدت قيادة الانتفاضة إلى إحياء المناسبات الوطنية والدينية خاصة يوم الأرض والنكبة والنكسة ووعد بلفور ويوم الشهيد والأسير وانطلاقة الثورة الفلسطينية، وذكرى إحراق المسجد الأقصى، وغيرها من المناسبات الهامة حيث عبر الفلسطينيون من خلالها عن رفضهم للاحتلال وسياساته القمعية[14[.

جرب الفلسطينيون خلال الانتفاضة الأولى أساليب اللاتعاون مع الاحتلال بأشكاله الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ورفض التعاطي مع الاحتلال ومؤسساته السلطوية الأخرى، خاصة الإدارة المدنية وسلطة الضرائب، والشرطة وأجهزة الصحة والتعليم. وقد كانت هناك نصوص وفقرات كاملة في نداءات القيادة الوطنية الموحدة تدعو فيها كل فئات المجتمع الفلسطيني إلى عدم دفع الضرائب، خاصة التجار ورجال الأعمال والحرفيين والمهنيين[15]. وعملت قيادة الانتفاضة إلى تشكيل حالة من الصراع والمواجهة اليومية مع الاحتلال، والعمل على تطوير العقلية النضالية وإنماء التربية الوطنية عند نشطاء العمل الميداني حتى يصلوا إلى كل فئات المجتمع، إضافة إلى أن يكون الشعب هو صاحب الدور الأساسي في المقاومة الشعبية، فضلاً عن تشكيل اللجان الشعبية والقوات الضاربة[16[

ويعد نموذج بيت ساحور في عدم دفع الضرائب والذي بدأ فعلياً في 7-7-1988 من أبرز نماذج العصيان المدني والمقاومة الشعبية في تاريخ فلسطين المعاصر. وهنا تضامنت كل فئات المجتمع الفلسطيني في بلدة بيت ساحور في قضية عدم دفع الضرائب، ما دفع الاحتلال إلى اقتحام المنازل وكسر أقفال المحلات التجارية ومصادرة السيارات والأجهزة الكهربائية، ونهب الدكاكين وتخريب الأسواق، فضلاً عن اعتقال العشرات من الرجال والنساء، خاصة ممن اعتبرهم الاحتلال “محرضين على العصيان المدني”.

وجرب الفلسطينيون باقتدار إستراتيجية عدم الخضوع إلى أي شكل من أشكال الإرهاب الممارس من قبل الاحتلال عليهم، وتجلت سياسة عدم الخضوع وعدم الخنوع وعدم الإذعان من جانب الفلسطينيين من خلال كسر أوامر منع التجوال، وتشكيل لجان الحراسة الليلية في الأحياء والقرى والأرياف، وكسر أوامر إغلاق المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات، واللجوء إلى التعليم الشعبي في الأماكن العامة رداً على سياسة إسرائيل في إغلاق المؤسسات التعليمية العليا[17[

كما ظهرت تصورات نظرية وتجارب عملية لناشطين فلسطينيين تدعو إلى تعميق عمل الانتفاضة ونقلها إلى دور المؤثر في الاحتلال، وفي المجتمع الإسرائيلي على حد سواء عبر الحديث الواضح عن الاستقلال الاقتصادي ورفض التبعية لإسرائيل وإحياء الزراعة ومشاريع الاستصلاح الزراعي ومكننة الزراعة ومحاربة الاستيطان ودعم مجهودات المرأة الريفية، ومساعدة العمال للعمل في المزارع الفلسطينية بدل المصانع الإسرائيلية. هذا إضافة إلى بناء المؤسسات التربوية والجامعية الوطنية، ودعم نشاطات اتحادات الكتاب والفنانين والعمال والمزارعين والطلبة والمرأة، ووضع خطة إعلامية محكمة لتقف في مواجهة الماكينة الإعلامية والدعائية الإسرائيلية الجبارة والخادعة والملفقة[18[

كما يعتقد بعض المهتمين والباحثين بالحركة الوطنية الفلسطينية وتتبع حركات التحرير والانتفاضات الشعبية، أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى استطاعت أن تتجذر في العمق الفلسطيني نتيجة للأدوار الإيجابية الفاعلة التي لعبتها المنظمات غير الحكومية لا سيما أن وجودها في الأراضي الفلسطينية كان سابقاً لوجود التنظيمات والقوى السياسية، وأنها كانت قريبة جدا من الناس العاديين بحكم الخدمات التي تقدمها للفئات الفقيرة في الميدان، وهذا ينطبق على الإغاثات الطيبة والزراعية والعيادات الصحية المتنقلة والجامعات ومراكز التعليم الشعبي، إضافة إلى لجان الإقراض الزراعي والتعاونيات الصناعية والبرامج المتنامية لتدريب وتشغيل المرأة، فضلاً عن الحركات الطلابية والشبابية والنقابات المهنية والاتحادات الشعبية. وكان التأثير الأعظم لهذا التوجه هو الاعتماد على الذات وفك الارتباط مع الاقتصاد الإسرائيلي، وتغيير ثقافة الاستهلاك، والنمو الكبير في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات وزيادة إنتاج المحاصيل الزراعية خاصة الحبوب والفواكه والزيتون، وهذا جاء كنتيجة مباشرة لإعادة الإنسان الفلسطيني الاعتبار للأرض وأهميتها الحيوية والوطنية[19[

...

 

التعليقات على خبر: المقاومة الشعبية الفلسطينية:

حمل التطبيق الأن